الصحافة الورقية: ضحية خيبات السياسة وتراجع الاقتصاد

3b

قبل الأزمة السياسية الطاحنة في 2011 تمتعت الصحافة البحرينية بقدر من الاستقلالية النسبية ساعدها على ذلك أمران، البحبوحة الاقتصادية والانفراج السياسي الذي ترافق مع مبادرة الإصلاح التي أثمرت بميثاق العمل الوطني، فصدرت صحف جديدة حكومية ومستقلة وإرتفع سقف الحرية الصحفية، وتنافست الصحف فيما بينها على استقطاب الكفاءات الصحفية وعلى السبق الخبري والتحقيقات الجريئة والتغطيات المميزة.

بدأ كل ذلك في الانحسار بشكل تدريجي بدءا من العام 2005 و2006 عندما ألقيت أحجار كبيرة في عجلة العملية السياسية الوليدة وجر البلد عنوة نحو الأزمات السياسية الإقليمية ذات البعد الطائفي، وانعكس كل ذلك على أداء الصحافة البحرينية.

كان الهدف إشغال الرأي العام وتشتيت اهتماماته واولوياته وإبعاده عن استحقاقات مرحلة الاصلاح والتمكين السياسي والتحول الديموقراطي.

وإنحدرت الصحافة البحرينية بشكل دراماتيكي بعد قمع الحراك في 2011 وما تلاه من هجمة شرسة على الصحافة والصحفيين، ولم تنجو البحرين من تأثيرات الازمة المالية العالمية العام 2008 التي انعكست هي الأخرى على مختلف قطاعات الدولة وكان للصحافة نصيبها من هذا التأثر، فزاد اعتمادها على الدعم الحكومي لتعويض تراجع الإعلان بشكل أساسي ما جعلها أكثر انحيازا وتماهياً مع السياسة الرسمية وأكثر بعدا عن الحياد والاستقلالية. ويستثنى من ذلك الصحيفتين المستقلتين: “الوقت” قبل اغلاقها، و”الوسط” التي حيكت لها مكيدة سياسية بإشراف هيئة شؤون الإعلام وجهاز الأمن الوطني لتوريطها، واستعداء القراء عليها، وافقادهم الثقة فيها وفي اخبارها، من أجل احكام السيطرة الرسمية عليها أسوة ببقية الصحف.

 ويعد العام 2011 عام نكبة وانتكاسة على الصحافة البحرينية بامتياز، فقد حظيت البحرين بأدنى المستويات في تقارير منظمة مراسلون بلا حدود وفريدوم هاوس ولجنة الحريات الصحفية ورابطة الصحافة البحرينية، وتصدرت البحرين واحدة من اسوأ عشر دول في حرية التعبير، واعتبر تقرير اللجنة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق الصحافة البحرينية الورقية بصحفها الست منحازة وموالية للحكومة.

عوامل تراجع الصحافة الورقية في البحرين:

  • تطويق الدولة للصحافة في الداخل بحواجز قانونية عبر قانون رقم 47 لعام 2002 لتنظيم الطباعة والنشر وجملة من التدابير الأمنية التي أثرت على التغطيات الصحافية ومهام الصحف في اداء دورها الرقابي على أجهزة الدولة.
  • ندرة الخبر الصحفي المتكامل حيث انحسرت التحقيقات الصحفية بسبب شح المعلومة، وحلت الأزمة السياسية وتداعياتها وفق وجهة نظر النظام منفرداً، ونالت قضايا الأزمة السياسية الراهنة وحقوق الانسان والفساد وتقارير ديوان الرقابة المالية وسرقة الأراضي مساحة ضئيلة وغير متوازنة. إدارات الصحف وجدت أن نشر هذه القضايا يعزز مطالب المعارضة ويعطي مسوغا ومبررا للاحتجاجات فآثر صحفيو النظام تجاهلها او تناولها بشكل مختصر وسريع لذر الرماد في العيون.
  • عززت الدولة من هيمنتها على الصحافة المحلية، ما ادى إلى ان تكتفي الصحف بالمواد الإخبارية الجاهزة من المؤسسات الرسمية وادارات العلاقات العامة بالوزارات والشركات ووكالة أانباء البحرين وإدارة الاعلام الامني بوزارة الداخلية. وتشابهت مانشيتات الصحف وسعت كل منها لكسب رضا الحكومة.
  • أولت الصحف أولوية كبيرة للعامل التجاري في تعاطيها مع أزمتها الجديدة فعمدت إلى فصل عدد كبير منهم تعسفيا إبان السلامة الوطنية لإسترضاء الحكم من جانب، والتملص من حقوق الصحفيين العمالية من جانب آخر.
  • غادر الصحفيون المتمرسون والاكفاء حقل الصحافة اذ لم تعد المهنة الصحفية جاذبة بل طاردة وغير مستقرة وغير مضمونة، وساد توجه جديد لدى ادارات الصحف بتفضيل الصحفي الجديد الأقل كلفة وراتبا او غير المحلي الذي يسهل توجيهه سياسياً.
  • انحدرت الصحافة – الحكومية على وجه التحديد – وحل الطرح الهزيل والسطحي وغير الموضوعي في تناول الموضوعات بسبب نقص تأهيل الصحفيين والتزم اغلبهم بالرقابة الذاتية حماية لانفسهم وخوفا من التعرض للمضايقات.
  • افتقدت المهنة الحد الأدنى من المعايير المهنية والأخلاقية، ومنها: نشر صور وأسماء المتهمين قبل محاكماتهم، وقلب الحقائق وتزييفها أمام القراء.
  • تعزز دور الإعلام الرقمي والصحف الالكترونية في دحض أخبار الصحف الحكومية وتعزيز مصداقيته بالصور والأفلام والتسجيلات الموثقة. وهو ما أثر سلباً على الصحافة الورقية في الداخل والتي لم تستطع مجاراة الصحافة الإلكترونية.

الصحافة بين الماضي والحاضر 

إنعكست الأزمات السياسية المتلاحقة بالسلب على أداء الصحافة في البحرين وأعادتها إلى الوراء. كانت الصحافة البحرينية ومنذ تأسيسها لسان الحكومة وعملت دوما تحت سقف منخفض من الحريات والقوانين القامعة للحرية ما خلا فترات زمنية قصيرة.

واعتاد النظام بعد كل أزمة سياسية على إغلاق الصحف وتكميم الأفواه وإحكام الرقابة على تدفق الأخبار والمعلومات وتغليظ أحكام قوانين الطباعة والنشر ومعاقبة الكتاب والصحفيين وسجنهم ونفيهم وتغييب صوتهم.

حدث ذلك بشكل جلي بعد أزمة الخمسينات وعشية حل هيئة العمل الوطني ونفي قادتها، وتكرر الأمر ذاته مرة أخرى بعد حل البرلمان 1975 وتعليق العمل بالدستور وإقرار قانون أمن الدولة. كما شهدنا تكرار الأمر ذاته في حراك 2011، حيث أطبقت السلطة قبضتها على الصحافة تماما وأقصي الصوت الآخر وأصبحت أولوية الصحافة هي ضرب المعارضة وتخوينها وإلصاق تهم العمالة بها وتشويه سمعتها في قبال الدفاع عن العائلة الحاكمة والحكومة بشتى السبل.

الصحافة الورقية: الواقع والتحديات الراهنة

تعمل الصحافة البحرينية في بيئة سياسية وأمنية مأزومة، فقانون رقم 47 لسنة 2002 بشأن تنظيم الصحافة والطباعة والنشر هو قانون معيق للحرية الصحفية. كما أن البيئة السياسية والإستقطاب الناجم عن الانقسام المجتمعي بين المؤيدين للحراك السياسي وللمطالب الشعبية وبين المعارضين له يلقي بظلاله القاتمة على الصحافة التي أصبحت منقسمة بين ست صحف منحازة وموالية كما وصفها بسيوني وبين مطبوعة وحيدة خاصة ومستقلة. ويقول الدكتور حسين البحارنة في دراسة شاملة له عن الوضع الصحفي في البحرين: “إن قانون الصحافة المقيد للحريات والمجلس التشريعي الضعيف عاملان معيقان للصحافة الحرة”.

توسلت حكومة البحرين الأساليب القديمة السابقة في لجم الصحافة وتجيير صوتها لصالح رؤية الحكم، إلا أن الأزمة السياسية وحراك 14 فبراير قد حدث في زمن الإعلام الرقمي الذي يصعب احتواءه والسيطرة عليه، فلم تنجح المعالجات القديمة في إخماد الحراك على المستوى الصحفي والإعلامي ووقفت السلطة عاجزة أمام الإعلام البديل المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي والتي حلت محل الاعلام التقليدي الموجه والخاضع لسياسات النظام الحاكم، ولذا، فان الدور الذي لعبته الصحافة سابقا في معاضدة السلطة قد ضعف كثيرا إلا أن الدولة لا تزال تعول عليه.

ولا يزال أمام النظام في البحرين عدة استحقاقات تجاه الصحافة ولها: تفعيل توصيات اللجنة الدولية المستقلة لتقضي الحقائق (توصيات بسيوني) بتبني نهج أكثر مرونة في ممارسة الرقابة والسماح للمعارضة بمجال أوسع في كل وسائل الاعلام المرئي والسموع والمطبوع، وانجاز قانون جديد للصحافة ينتج صحافة تتناغم مع المطالب المجتمعية بالمزيد من الحريات والعدالة وحقوق الانسان والديموقراطية.

تتمثل التحديات أمام الصحافة البحرينية في استعادة ثقة القارئ الذي هرب منها بعيدا، وفي قدرتها على القيام بدور موضوعي ومحايد في معالجة الأزمة السياسية، وفي رأب الصدع المجتمعي، وفي التقريب بين وجهات النظر المختلفة، وفي نبذ جميع أشكال التعاطي الطائفي مع الأزمة السياسية.

زر الذهاب إلى الأعلى